في الأسبوع الماضي كنتُ في زيارة لسلطنة عُمان، كل دقيقة قضيتها هناك كانت عالماً من البهجة، لستُ أعني تلك النظافة وحُسن ترتيب الشوارع والحدائق والمرافق العامة فحسب، بل تلك الطهارة والاستقامة وحُسن التأدب مع الآخرين، أشياء غدت نوادر وقد لا يُجِيدها تلقائياً إلا أصحاب البيوت والثياب والقلوب البيضاء.. العُمانيون. أهذا ما وجدته فقط في عُمان؟ لا..! هذه الزيارة الأولى لي بعد إعصار "جونو" المدمر الذي خرب مرافق السلطنة قبل سنتين تقريباً، آثار هذا الإعصار لا زالت بقاياها واضحة، لكن الكثير الكثير من المنشآت والمرافق قد أُعيد إلى وضعية ما قبل الإعصار.. بل وأفضل. عَلَّمتْ تلك التجربة العُمانيين التحسب للقادم من غضب الطبيعة الربانية، وعَلَّمتْ تلك الأيام المؤلمة العُمانيين أن يعتمدوا على ذواتهم وسواعدهم وعقولهم وجيوبهم أكثر من الاعتماد على الغير.. وحتى إن كانوا أقرب الأقربين، وذلك عائد إلى طبيعة الاعتزاز بالنفس عند العُمانيين، وإلى اعتقادهم الجازم بأن التجارب -المؤلمة منها خاصةً- هي ملهمة الشعوب على الابتكار والإنتاج والتعاضد المجتمعي من أجل غدٍ أفضل. كل ذلك يتم بهدوء عُماني لا شبيه له، وكل ذلك يتم دون التفاخر بما عُمل ودون المراهنة على ما سيُعمل، أما السياسة عند العُمانيين فهي تطبيق أمين لتعريفها القديم الجامع "فن الممكن".. لا عداء مع أحد يحسب على حركتك الدبلوماسية وخياراتك في الفعل السياسي، ولا صداقات استثنائية تجعلك ورقة مساومة على طاولة اللعب الدولي! ومن غرائب الصدف -ومحاسنها كذلك- أن الإنتاج العُماني من البترول ليس كثيراً حتى لا يُطمع فيك من الآخرين، في نفس الوقت الذي يعطيك إحساساً بالاكتفاء والزيادة غير المبررة في الإنفاق البعيد عن الرشاد؛ وبدلاً من هذا اكتفت الأرض العُمانية وكأنها الأم الناصح لمن عليها ببراميل تعد بمئات الآلاف تُقيم الأود ولا تنـزع حب المثابرة والاعتماد على النفس والحرص على الحاضر والمستقبل القريب البعيد. العُمانيون تدفعهم أحاسيسهم إلى نزوع من الأفكار يقول: العمل العربي المشترك ضرورة مُلحة، لكن هذه الضرورة لم تُترجم إلى أرض الواقع بأفعال تعود بالفائدة على الشعوب العربية، لهذا فهم لا يأملون كثيراً في الاعتماد على ما يمكن أن تقدمه جامعة الدول العربية ولا كل المنظمات المنبثقة عنها؛ أما محيطهم الإقليمي فهو ملاذ آمنٌ لهم على ما فيه من عيوب واضحة متمثلة في عدم وضوح الرؤية الاستراتيجية الجماعية في الحقل الاقتصادي، والتعامل شبه الفردي مع الأزمات التي تحيط بالخليج وأهله، إلى جانب البطء في ردم الهوة الاجتماعية والاقتصادية بين سكان الدول المشكِّلة لمجلس التعاون الخليجي، لهذا كله ليس مستغرباً أن نلمس تمايزاً بين نظرة عُمان في حقول معينة وبين بقية دول الجوار القريب، ويسري ذلك على المحيط الأكبر العربي. الإنسان العُماني منذ القدم إنسان يحب البحر والسفر والاغتراب الـمُسبب والاكتشاف، وتحولت كل هذه النزعات الآن إلى اكتشاف للموهبة العُمانية في الداخل.. داخل البلاد وداخل الروح العُمانية. إنَّ أكبر المباني التي تُشيد الآن في العاصمة (مسقط) ليس مبنى للبورصة والمراكز المالية الأخرى، وليس مُخصصاً للأرجل التي تتقاذف كُرة مليئة بالهواء؛ هذا الصرح الذي أُعجبتُ بالهدف الذي عمل من أجله -كما بنائه- مُخصص لتعليم الشبيبة على عزف السيمفونيات العالمية الشهيرة، والعازفون هم جوقة متميزة متمثلة في فتية وفتيات عُمانيين وعُمانيات، يُجبرون سمعك على أن ينصت لعزفهم وكأنك تسمع نغمات عازفي الأوبرا في فيينا مثلاً. أهل تلك البلاد محبون للموسيقى الراقية التي تماثل رُقيهم في التعامل مع الغرباء ومع بيئتهم ومشاكل الإنسان المختلفة. لا أثر للتطرف بكل أشكاله في عُمان، لا تطرف ديني ولا تطرف أخلاقي، مسجد السلطان قابوس في مسقط الذي يروي عطشك الإيماني، ولهفتك القديمة الأخرى في جعل المسجد -أي مسجد- مركزاً للعلوم والمكتبات والمعارف إلى جانب دوره العقدي، هذا الجامع العملاق لا يمكن أن تغادره بعد صلاتك إلا وأنت مفتونٌ بعمارته ورحابته والأهداف العديدة الخيرة التي أقيم لأجلها. الكلُ عالمياً حاضر في عُمان، لكنه يعيش ويعمل ويبني ويفكر حسب الثقافة وطبائع السلوك العُماني. ... نصيحة لوجه الله: إن أراد أحدكم أن يسافر إلى مكان تُغرد فيه الطيور ويُطرب سمعه هدير موج بحره حيناً وصفوه حيناً آخر، وعندما تكون عاشقاً لإحاطة الجبال ذات الأشكال والنُدوب بك، وعنـدما تهفو نفسك لمكان تعُم منه وحوله السكينة، وإن كنتَ من محبي نظافة الدروب واللسان والقلوب، وإن أردت أن تعود لك روحك الشابة المفقودة، فعليك أن تحجز مقعداً على أقرب رحلة مسافرة.. إلى عُمان الجميلة!